الأحد، 22 نوفمبر 2015

من هو خميني؟ وما هو نظام «ولاية الفقيه»؟




المسيرة التاريخية لرجال الدين الشيعة
إن خميني هو مؤسس ورمز نظام الملالي وروحه وإن مذهب ومسلك بقاياه أو حثالته قد نبع من أعماله ومواقفه وسلوكه وأفكاره. إذًًا فلابد لنا من التعرف على خميني والجواب على أسئلة حوله: من كان خميني؟ ومن أين كان قد جاء؟ وأي سبيل أو مسار قد سلك؟ وما كانت مواقفه وآراؤه الحقيقية ولماذا وكيف وصل إلى السلطة؟ ولكن قبل ذلك نذكر في ما يأتي نقاطًا بإيجاز تام حول المؤسسة الدينية الشيعية (رجال الدين الشيعة):

إن مذهب الشيعة أصبح المذهب الرسمي لإيران منذ عهد الحكم الصفوي في القرن السابع عشر الميلادي، فإن جميع الحكومات الإيرانية التي سبقت الصفوية كانت أصلاً على مذهب السنة إلا سلالات حكمت لمدة قصيرة مثل آل «بويه» كانت على مذهب الشيعة. إن الصفوية هي أول نظام حكم مركزي مقتدر في إيران أعلن التشيع (مذهب الشيعة) هو المذهب الرسمي لإيران بأسرها. كان رجال الدين الشيعة قبل وصول الصفوية إلى السلطة على موقف المعارضة أصلاً وهناك كثيرون من فقهاء وعلماء الشيعة قبل نظام الحكم الصفوي قتلوا على أيدي تلك الحكومات السنية بينهم فقهاء بارزون ومشاهير مثل الشهيدين الأول والثاني، كما كان فقهاء بارزون آخرون يتعرضون دومًا للاعتداء على أيدي الحكومات السنية آنذاك منهم الشيخ مفيد والشيخ طوسي. ولكن بعد وصول سلالة الصفوية إلى الحكم تحول غالبية رجال الدين الشيعة إلى رجال الدين الحكوميين الذين كانوا في الحقيقة مبررين أو مبرئين لنظام الحكم الصفوي وكان البلاط الملكي (بلاط الشاه) حتى نهاية عهد ملوك سلالة «قاجار» في أوائل القرن العشرين الماضي يحتضن دومًا عددًا كبيرًا من المراجع العظام للتقليد، نعم، كان هناك رجال دين يعارضون نظام الحكم الملكي في عهدهم وهم أصبحوا في ما بعد وإبان ثورة الدستور الإيرانية من التحرريين وقادوا حركات ضمن الثورة المذكورة ومنها حركة التبغ.
ومن الناحية الطبقية فإن رجال الدين الحاكمين كانوا أصلاً داعمي ومساندي الأقطاعيين الكبار، كما كان الشاه والبلاط الملكي هو الآخر في حد ذاته من أكبر الأقطاعيين في البلاد. وطبعًا كان رجال الدين هؤلاء يفسرون الإسلام حسب أهواء ورغبات الأقطاعيين بحيث تكون الكتب الفقهية لرجال الدين في إيران وفي فصولها الخاصة للأحكام الاجتماعية لملوم الأحكام الخادمة لمصالح الأقطاعيين والبورجوازية التقليدية ذات خصوصيات رجعية.
وحتى بعد ثورة الدستور الإيرانية التي تحول من أثرها البلاط الملكي الأقطاعي إلى البلاط الملكي البورجوازي الأقطاعي كان غالبية رجال الدين جزءًا من الوسط الأقطاعي، حيث كان «آية الله سيد حسين بروجردي» الذي انتقل من النجف العراقية إلى مدينة «قم» منذ عام 1945 حتى تحول إلى مرجع تقليد متفرد للمسلمين الشيعة في العالم كان يعارض الإصلاح الزراعي بشدة ولذلك مادام كان على قيد الحياة لم يتجرأ الشاه محمد رضا بهلوي على تطبيق وتمرير خطته للإصلاح الزراعي بسبب ما كان «آية الله بروجردي» يتسم به من القاعدة الشعبية. ولكن بعد وفاة «آية الله بروجردي» في نيسان (أبريل) عام 1961 وجد الشاه الطريق ممهدًا أمامه إلى القيام بالإصلاح الزراعي بحيث كتب في كتابه «الثورة البيضاء» يقول من دون ذكر اسم «بروجردي»: «كان رجلاً رجعيًا يمانع تطبيق خطة الإصلاح الزراعي».
فبذلك وبعد وفاة «آية الله بروجردي» وبعد التغلب التام للبورجوازية الكومبرادورية على الأقطاعية وكون أميركا قد حلت محل بريطانيا في الهيمنة التامة على السياسة الإيرانية، انحسر دور رجال الدين وانكسرت شوكتهم في السياسة أكثر فأكثر. يذكر أن البريطانيين وعند ما كانت لهم الهيمنة على السياسة الإيرانية كانوا يدعمون رجال الدين دومًا وكانوا طبعًا صديقًا حميمًا لهم. وخلال خمسينات القرن الماضي وبعد الانقلاب ضد الدكتور مصدق وإلى سنة 1963 كانت هناك حرب باردة تدور بين أميركا وبريطانيا على النفوذ والتأثير في السياسة الإيرانية، وفي هذه الحرب كان رجال الدين منحازين لبريطانيا بشكل عام.



الفصل الأول
من هو خميني وكيف وصل إلى السلطة؟

نبذة عن حياة خميني
ولد خميني في عام 1320 الهجرية (1900 الميلادي) في مدينة «خُمين» (وسط إيران). كانت أمه «هاجر» بنت «ميرزا أحمد» من أهالي المدينة المذكورة. وكان والده مصطفى ابن أحمد الهندي الذي كان يسكن قبل ذلك إقليم «كشمير» الهندية.  ويقول «مرتضى بسنديده» أخو خميني غير الشقيق إن والد خميني كان أقطاعيًا متنفذًا في مدينة «خمين» وكان يمتلك غلمانًا وحراسًا مسلحين . وعند ما كان خميني في الثاني من عمره قتل والده في طريق «سلطان آباد – أراك» (وسط إيران) على يد أحد مرافقيه. وفي ما بعد رفعت عائلة خميني ومن ضمنها أخوه غير الشقيق «بسنديده» الشكوى إلى بلاط الشاه مظفر الدين القاجار (ملك إيران آنذاك)، فأخيرًا تم إعدام القاتل بأمر من «عين الدولة» رئيس الوزراء الإيراني آنذاك.  
قضى خميني عهد شبابه في مدينة خمين الإيرانية ودرس الصرف والنحو والمنطق على شقيقه الأكبر «مرتضى بسنديده». ودرس منذ عام 1919 في الحوزة العلمية (المدارس الدينية لرجال الدين) في كل من مدن إصفهان وأراك وقم. وفي عام 1926 (1345 الهجري القمري) أنهى دراساته على المستويات العالية من الدروس الدينية الخاصة لحوزات (مدارس) رجال الدين حتى أصبح في عام 1936 في عداد رجال الدين المدعين للاجتهاد. وكان «الشيخ عبد الكريم الحائري» مؤسس حوزة قم هو أبرز أستاذ لخميني أي الذي درس عليه خميني. 

تأليفات خميني
إبان دراسته وتدريسه في الحوزات العلمية (المدارس الدينية الخاصة لرجال الدين) وإضافة إلى كتاب «توضيح المسائل» (المعروف بـ «الرسالة الشرعية» المتضمنة لآراء كل عالم مجتهد في الأحكام الشرعية) قام بتأليف وتصنيف كتب عديدة أشهرها: «كشف الأسرار» و«تحرير الوسيلة» و«الحكومة الإسلامية».
كتاب «كشف الأسرار» ألفه خميني ردًا على كتاب «أسرار ألف سنة» بقلم شخص يدعى «علي أكبر حكمي زاده» وشرح فيه جانبًا من رؤاه. لقد أصدر خميني هذا الكتاب وأعده للنشر في عام 1943.  وهذا في وقت كان فيه نظام الشاه يمر بغاية الضعف نتيجة احتلال إيران من قبل جيوش الحلفاء. مع ذلك وحتى في هذه الحالة لم تكف خميني عن توخي الحيطة والحذر فكان يمنع من ذكر اسمه على غلاف الكتاب باعتباره مؤلفه وذلك خوفًا من الشاه.
أما كتابه المسمى بـ «تحرير الوسيلة» فهو أصلاً هوامش على رسالة شرعية مسماة بـ «وسيلة النجاة» لمؤلفه السيد أبو الحسن الإصفهاني الذي كان مرجعًا دينيًا شهيرًا للشيعة آنذاك. وتناول خميني في هذا الكتاب من أمور مثل الطهارة والنجاسة وإلى شؤون قضائية وأمثالها. وألفه بعد نفيه إلى تركيا ثم أصدره ونشره في النجف (العراق).
وكتابه المسمى بـ «الحكومة الإسلامية» هو مجمل دروسه في النجف وتم جمعها وتدوينها في عام 1969 وقدم فيه خميني مشروعه للحكومة وهو قائم على نظرية «ولاية الفقيه».

خميني في عهد آية الله بروجردي
في عام 1945 وبعد انتقال بروجردي من النجف إلى مدينة قم شرع خميني تدريس العلوم الدينية في الحوزات العلمية (مدارس رجال الدين). إن الطلاب الذين كانوا يدرسون ويتعلمون على خميني في تلك السنوات والسنوات اللاحقة أصبحوا بعد وصول خميني إلى السلطة في إيران من أبرز وأهم رموز حكمه ومنهم: منتظري ومشكيني وخزعلي وبهشتي ومحمدي كيلاني ومحمد يزدي وقدوسي ومصباح يزدي وإمامي كاشاني ومقتدائي وصادق خلخالي ومحلاتي وخامنئي. ولم يكن يعرف خميني آنذاك إلا مدرسًا وليس مرجعًا دينيًا لكون العديد من مراجع التقليد الكبار موجودين آنذاك على الساحة الدينية الإيرانية وعلى رأسها آية الله بروجردي.
ويقول «جعفر سبحاني» من رموز النظام الإيراني الحالي ومن أتباع خميني والموالين له في كتابه «تاريخ العشرين سنة»: «إن آية الله بروجردي كان يشاور خميني في الشؤون الخاصة للدولة وحكومة الشاه وخلال مفاوضاته مع المسؤولين في نظام حكم الشاه وبل كان يشرك خميني مباشرة في المفاوضات المذكورة... فعلى سبيل المثال أوفد الشاه رئيس وزرائه الدكتور محمد إقبال إلى آية الله بروجردي لاستحصال موافقته على تعديل مادة من مواد الدستور وطلب بروجردي من خميني أن يشارك في هذا اللقاء فاستجاب خميني طلبه وشارك فيه وتباحث الموضوع مع الدكتور إقبال رسميًا».

لقاءات خميني مع الشاه
أما الواقع الأهم والأدهى فهو أن خميني وخلف ستار هذا الصمت كان يواكب ويساير الأشخاص والتيارات المتخلفة الرجعية الداعمة والموالية للشاه وبلاطه. وهنا نود أن نشير إلى لقاءين أجراهما خميني مع الشاه وقد أكد إجراء هذين اللقاءين كل من ابنه أحمد خميني وموسوي أردبيلي وصادق خلخالي. فكتب أحمد خميني يقول: «إن المرحوم آية الله بروجردي كلف سماحة الإمام (خميني) باللقاء والتباحث مع الشاه نيابة عن علماء الدين حول بعض الأمور السياسية آنذاك... فأجرى سماحة الإمام لقاءين مع الشاه شرح فيهما آراء ووجهات نظر المراجع الدينية وعلماء الدين محذرًا الشاه من مغبة سياساته...». 

صمت خميني أمام الشاه وحقده ضد الدكتور مصدق
سياسيًا كان خميني وعلى طول عمره مقلدًا مؤمنًا مخلصًا للشيخ فضل الله نوري المعادي لثورة الدستور والذي وقف بوجه مجاهدي الثورة المذكورة التحرريين وعلماء الدين الداعين إلى إقامة النظام الدستوري الذين كانوا يقيمون في كل من مدن النجف (في العراق) وقم وطهران، وكان يشهر السيف بوجه الثوار مؤيدًا ومساندًا للملك القاجاري محمد علي شاه وحرس نظامه (الذي يسمى آنذاك بـ «قزاق»). وفي ذلك العهد أيضًا كان الشاه والملا والحرس (القزاق) متعاضدين ويدًا بيد لقمع المجاهدين والتحرريين تحت يافطة «المشروعة» لتكبيلهم وشنقهم في «باغشاه» وقصف برلمان التحرريين.
كتب خميني نفسه في عام 1944 أي في عمر بالغ 43 عامًا آنذاك في كتاب له بعنوان «كشف الأسرار» قائلاً: «لم يعارض رجال الدين في إيران نظام الدولة إطلاقًا، ولا يعارضون نظام الحكم حتى إذا اعتبروه نظامًا جائرًا». ومضى يقول: «لذلك إن حدود الولاية والحكومة لا تتجاوز أكثر من بضعة أمور. ومن هذه الناحية فإن الفتوى والقضاء والتدخل في حماية أموال الصغار والقاصرين يدور الحديث عنها ولكن من دون حديث عن الحكومة أو السلطنة إطلاقًا ولم يقل أي فقيه حتى الآن ولم يكتب في أي كتاب بأننا شاه (ملوك) أو أن الملك (السلطنة) من حقنا... ولم يعبر قط عن معارضتهم ولم يرغب في تقويض أساس الحكم... ولم تظهر حتى الآن أية عارضة لمبدأ الملكية وأساس السلطنة حتى الآن من قبل رجال الدين».
خلال قضية الانقلاب ضد الدكتور محمد مصدّق في 19 آب (أغسطس) عام 1953 اصطف خميني بجانب كاشاني وبلاط الشاه في جبهة واحدة ضد الدكتور مصدّق زعيم الحركة الوطنية الإيرانية. حتى بعد الثورة المناهضة للملكية أيضًا كان يعبر عن فرحه وارتياحه لكون مصدّق «قد تلقى الصفعة» - حسب تعبيره حرفيًا -  من الاستعمار والرجعية.
ولإدراك ما كان خميني يضمره من الحقد والعداء ضد حركة الشعب الإيراني الوطنية المناهضة للاستعمار بقيادة الدكتور مصدّق وضد حركة تأميم النفط يكفي ملاحظة قوله في حزيران (يونيو) عام 1979: «ليست مسيرتنا مسيرة النفط، ليس واردًا لدينا تأميم النفط، من الخطأ أن نهتم بموضوع النفط، بل إننا نهتم بالإسلام ونريد الإسلام وإن مقصدنا هو الإسلام ولا النفط. إذا كان هناك من قام بتأميم النفط فيأتون ويلقون الإسلام بجانب ويشقون الجيوب من أجله ولصالحه... لا يمكن تحمل إقامة تجمع من أجل من بلت عظامه وبالتالي معارضة الإسلام». أي إن خميني لم يكن يتحمل حتى تجمعًا من أجل الدكتور مصدّق وتخليدًا لذكراه بعد انتصار الثورة المناهضة للملكية. وحتى قبل عامين (في عام 1998) كتبت صحف النظام تقول: «تفضل الإمام بالقول إنه لا تجعلوني أن أضطر إلى الكشف عن طبيعة الصفعة التي تلقاها الإسلام في عهد حكم ذلك الرجل القزم» (صحيفة «كيهان» - 9 كانون الأول 1998).
هذا هو الاستهتار بمصدّق الكبير الذي قدم نفسه أمام محكمة الشاه العسكرية بقوله: «إني إيراني مسلم وأعادي كل ما يهدد الإيرانية والإسلامية»، والذي قال أمام محكمة الشاه: «نهجي هو نهج سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) أي أعارض بكل قوة لمن يعادي الحق. أضحي بكل ما أمتلك وأبذل النفس والنفيس. لم تعد لي زوجة ولا ابن ولا بنت، لا أمتلك أي شيء إلا وطني أمام أعيني».

خروج خميني من صمتها وأسبابه
في أوائل الستينات التي وصل فيها كندي إلى الرئاسة الأمريكية وبدأ كبح جماح الشاه خوفًا من اندلاع ثورة شعبية في إيران، أصبح الشاه إصلاحيًا وانتقل من موقعه كنظام أقطاعي تابع لبريطانيا إلى الكون نظامًا رأسماليًا تابعًا لأمريكا بعد أن لجأ إلى إصلاحات بورجوازية. كان هذا الأمر ضروريًا بالنسبة للشاه لإبقاء نظامه على السلطة وضمان استمراره، فلذلك طرح مشروع الإصلاحات الزراعية وحق النساء في التصويت والمشاركة في الانتخابات. فحتى آنذاك كانت النساء يعتبرن في عداد المحجورين والقاصرين والمفلسين فلذلك كن محرومات من الانتخاب أو ترشيح النفس للانتخابات بالرغم من أن «رضا شاه» كان قد جعل كشف الحجاب قسريًا في عام 1937 أي قبل 25 عامًا من ذلك. ولكن الشاه ومن أجل حماية نظامه وبإسناد من أمريكا قرر إجراء بعض الإصلاحات البورجوازية، مما أثار الاعتراض والرفض من قبل الملالي العائدين إلى العهد الأقطاعي. ومن هنا اندلع الصراع بين خميني والشاه.
فبذلك وفي عام 1962 دخل خميني الساحة وهو يقدم النصائح والإرشادات للشاه معترضًا على مشروع حق النساء في التصويت ومشروع الإصلاحات الزراعية.

وفي ما يلي نص البرقية التي بعث بها خميني إلى الشاه في تشرين الأول (أكتوبر) عام 1962:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الحضرة المباركة لجلالة الملك المعظم
بعد تقديم التحية والدعاء، كما نشرته الصحف فإن الحكومة لم تضع الإسلام (الكون مسلمًا) من شروط المقترعين والمرشحين في انتخابات مجالس الولايات والمجالس البلدية، كما منحت للنساء حق التصويت أيضًا مما أثار القلق لدى علماء الدين العظام وسائر فئات المسلمين. إن جلالتك تعرف أن مصلحة المملكة تكمن في مراعاة أحكام الدين الإسلامي الحنيف واطمئنان القلوب. فألتمس من حضرتك أن تأمر بشطب القرارات المعارضة للدين المقدس والمذهب الرسمي للمملكة من البرامج والخطط الحكومية والحزبية لتستحق دعاء الشعب المسلم. الداعي روح الله الموسوي الخميني
وكتب في برقيته إلى الشاه يوم 6 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1962 يقول:
«إني ومن موقف طلب الخير للأمة الإسلامية ألفت انتباه جلالة الملك إلى أن جلالتكم لا تثقوا بالعناصر التي تعمل
وبالتملق والتزلف على ارتكاب جميع الأعمال المناقضة للدين والقانون ثم نسبها إلى جلالتكم ليجردوا الدستور من المصداقية بإصدار القرار الخياني الخاطئ فيما أن الدستور هو الكفيل للقومية والملكية».
بعد تراجع الشاه التكتيكي عن حق النساء في الانتخاب وترشيح النفس في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1962 والذي اعتبره خميني انتصارًا كبيرًا بالنسبة له، قال في يوم 2 كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته في إحدى محاضراته بمدينة قم: «إنهم وظفوا النساء في الدوائر، أنتم لاحظوا، لقد شلت الأمور في كل دائرة دخلتها النساء... إن المرأة إذا دخلت أية دائرة أو مؤسسة فتربكها وتعرضها للفوضى».
وحتى بعد إجراء الشاه استفتاء لما أسماه بـ «الثورة البيضاء» في يوم 26 كانون الأول (يناير) عام 1963 كتب خميني، قائلاً: «بالإعلان عن مساواة الحقوق بين الرجل والمرأة يتم سحق عدة أحكام للإسلام». وسبق ذلك أن كان خميني ومعه كل من كولبايكاني وشريعت مداري قد أصدروا بيانًا أوضحوا فيه أحد أسباب معارضتهم لـ «اللثورة البيضاء» الشاهية بقولهم: «كل من يؤمن بمساواة الحقوق بين الرجل والمرأة في أحكام الإرث والطلاق وأمثالهما التي هي من أحكام الإسلام ثم يلغي هذه الأحكام فإن الإسلام قد أصدر الحكم النهائي عليه وحسم أمره».
هذا وفي حزيران (يونيو) عام 1963 كان خميني يقول على المنبر ضمن خطاب صارم اللهجة ضد الشاه: «إن السيد شاه جاهل فلذلك يصعد ويقول يجب إقرار المساواة بين الرجل والمرأة. يا سيادة الشاه، هذا كلام قد أملوه عليك... فقد سمعت أن جهاز المخابرات يعمل على أن يفقد الشاه شعبيته حتى يمكن لهم أن يطردوه من البلد».
أذكّر هنا بأنه وفي هذه الأثناء وبسبب ما كانت الظروف تتطلبه في ذلك العهد وبتشجيع من قبل المواطنين والمثقفين والجامعيين والقوى السياسية في العهد المذكور كان الجانب المعادي للملكية والمطالبة بالاستقلال في اعتراضات خميني على الشاه يتم تعزيزها وإبرازها وكانت معارضته السياسية لنظام الشاه تلقي ظلالها بشكل أو آخر على طبيعته الرجعية. كما إن موقفه وانطباعه الرجعي من الإسلام قد غيّر لونه حسب متطلبات العصر بعد انتصار الثورة المناهضة للملكية حيث لم يعد يعترض على منح النساء حق الانتخاب والترشيح لنيابة البرلمان.

فترة العيش في المنفى
لقد تم نفي خميني إلى تركيا في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1964. فحتى عام بعد ذلك أي تشرين الأول (أكتوبر) عام 1965 لم يشاهد منه حتى سطر واحد من اتخاذ الموقف ضد نظام الشاه. بل وكان يسعى للعودة إلى إيران متعهدًا بأنه لن يعترض على أحد أو شيء وذلك بواسطة وسطاء من العاملين في بلاط الشاه ومنهم المدعو «خوانساري» وكذلك عبر ابنه مصطفى خميني.
ويقول شقيقه (بسنديده) في مذكراته: «إن المدعو جليلي كرمانشاهي الذي كان من حاشية «شريعت مداري» أبلغ الحكومة بأنه ليس من المصلحة بقاء خميني في تركيا ويجب التخطيط لإعادته. ولكن رجال الدولة لم يكونوا يعتبرون من المصلحة عودة الإمام إلى إيران، فلذلك وبعد محادثات ومشاورات بينهم وبين "بيراسته" سفير إيران في بغداد آنذاك والذي كان موضع ثقة تامة لدى الشاه ارتأى بيراسته أن يتم نفي خميني إلى النجف» (كتاب «مسايرة الشمس» - المجلد الأول – الصفحة 42).
فأقام خميني في العراق من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1965 إلى تشرين الأول (أكتوبر) عام 1978 أي لمدة 13 عامًا. يمكن تقسيم هذه السنوات الـ 13 إلى 3 فترات محددة ومنفصلة تمامًا بعضها عن البعض:
- فترة التعب والاعتزال من عام 1965 إلى عام 1971 أي لمدة 6 سنوات.
- فترة الأفول والغياب بعد اندلاع الكفاح المسلح أي من عام 1971 إلى 1977.
- فترة الظهور متأثرًا بمجيء كارتر وحدوث الانفتاح السياسي في نظام الشاه من عام 1977 إلى عام 1978، ووصول خميني إلى السلطة.
كتب خميني في عامي 1965 و1966 رسالتين أو رسائل خاصة إلى كل من منتظري ونجفي مرعشي، كما ألقى خطابًا واحدًا أيضًا. فقدم خميني في هذه الرسائل والخطاب نصيحة لملوك ورؤساء البلدان الإسلامية بأن «عليهم أن يتآخوا معًا»! من دون الإشارة إلى نظام الشاه أو إبداء أي اعتراض عليه!
في عام 1967 قدّم خميني تظلمًا (شكوى) إلى «هويدا» رئيس وزراء الشاه، كاتبًا إليه ومتسائلاً: «ما ذا ذنب علماء الإسلام الذين هم حماة استقلال البلدان الإسلامية وسيادتها الإقليمية غير تقديم النصيحة؟».
من عام 1967 إلى عام 1971 وجه خميني 6 رسائل خاصة ورسالتين قصيرتين فقط (إحداهما إلى الحجاج والأخرى إلى الحكومات والشعوب الإسلامية)، كما أجرى حوارًا مع ممثل لحركة «الفتح» حول دعم مجاهدي الفتح. ولكنه التزم الصمت حيال جميع القضايا والوقائع التي حدثت خلال هذه الفترة في إيران بدءًا من إعدام منفذي عملية اغتيال «حسن علي منصور» رئيس وزراء الشاه ووصولاً إلى الاحتفالات لمناسبة تتويج الشاه بالإضافة إلى مظاهرات الطلاب واستشهاد البطل «تختي» ومظاهرات الطلاب عام 1969.
بل وبدلاً من ذلك وبكل خبث ولؤم وتزلفًا لنظام الشاه يقوم بتخطئة العملية البطولية لمنظمة فدائيي الشعب في منطقة «سياهكل» (في غابات الشمال الإيراني) وكذلك شهداء هذه العملية الذين استشهدوا على أيدي جلادي الشاه حيث يكتب في رسالة إلى الجمعيات الإسلامية في خارج البلاد آنذاك قائلاً: «لا تنخدعوا ولا يغرر بكم بافتعال الاستعمار أحداثًا في البلدان الإسلامية منها حادث "سياهكل" وأحداث تركيا».
كما وفي عام 1970 وبعد ما اعتقلت مجموعة من مجاهدي الشعب الإيراني في دبي وهم في طريق عودتهم إلى قواعد الثورة الفلسطينية تقرر نقل المجاهدين المعتقلين على متن طائرة إلى إيران لتسليمهم لنظام الشاه، إلا أن المجاهدين أجبروا الطائرة على تغيير مسارها والهبوط في مطار بغداد. فكانت الحكومة العراقية التي لم تكن تعرف آنذاك شيئًا عن منظمة مجاهدي خلق السرية تخشى أن يكون نظام الشاه قد حبك مؤامرة ضدها، فلذلك قامت باعتقال محوّلي مسار الطائرة. ففي طهران طرح «سعيد محسن» أحد مؤسسي منظمة مجاهدي خلق هذه القضية على المرحوم آية الله طالقاني فكتب رحمه الله رسالة بالحبر غير المرئي إلى خميني ليتوسط لدى الحكومة العراقية حتى تقوم بإطلاق سراح المجاهدين السجناء. فامتنع خميني حتى عن تعريف بسيط للمجاهدين لدى الحكومة العراقية وإطلاعها على الرسالة الخطية لآية الله طالقاني. ففي هذا المجال كتب الملا دعائي الذي كان يرافق خميني في النجف يقول: «كانت هذه الرسالة قد كتبت بصورة غير مرئية... وعند ما جئت إلى الإمام فأظهروا ما كتب على ورقة الرسالة. فكان آية الله طالقاني ولطمأنة الإمام وسب ثقته بالرسالة قد روى له في الرسالة إحدى ذكرياته مع الإمام وآية الله زنجاني... كان السيد طالقاني قد قصد من هذه الرسالة أن يطالب الإمام المسؤولين العراقيين بأن يفرجوا عن هذه المجموعة. فعلى أية حال وبعد كل هذه القضايا، قال الإمام: "علي أن أفكر في الأمر"». فغداة ذلك اليوم يقول خميني لـ «دعائي»: «حتى إن يكن الآن السيد طالقاني والسيد زنجاني قد جلسا في هنا ويقل لي كلاهما هذا الكلام وجاهًا، فلن أقبله».
وكتب الملا «دعائي» حول تعبير آية الله طالقاني عن المجاهدين قائلاً: « في رسالته إلى الإمام كان المرحوم آية الله طالقاني قد استند إلى آية قرآنية شريفة وهي: «إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى» أي الآية التي تصف فتية أصحاب الكهف. ولكن ما لم يقم به خميني أي تعريف المجاهدين السجناء للحكومة العراقية فقام به فورًا ياسر عرفات وممثله في بغداد فبعد مدة تم إطلاق سراح إخواننا الذين كان بينهم البطل الشهيد موسى خياباني أيضًا...
وبعد مرور مدة على قضية الطائرة الإماراتية أوفدت منظمة مجاهدي خلق ممثلاً عنها من طهران إلى النجف ليعّرف خميني على المواقف السياسية والعقائدية للمنظمة.
وكان الاتصال برجال الدين البارزين وأقطاب الحوزات العملية (المدارس الدينية) وتبصيرهم وتوعيتهم يتم متابعته والحرص عليه بفعالية من قبل المسؤولين في منظمة مجاهدي خلق وكان مؤسس المنظمة الكبير المجاهد الشهيد «محمد حنيف نجاد» شخصه يحدد مواعيد لقاء وحديث وتباحث منتظمة مع عدد منهم بينهم آية الله قاضي في مدينة تبريز (مركز محافظة أذربيجان – شمال غربي إيران)، كما كان «حنيف نجاد» يلتقي ويتباحث مع أشخاص أدنى آنذاك أيضًا ومنهم «علي خامنئي» («الولي الفقيه» والمرشد الأعلى للنظام الإيراني الحالي) في كل من مدينة «مشهد» (مركز محافظة خراسان – شمال شرقي إيران) وفي العاصمة طهران بالتناوب ونتيجة هذه اللقاءات ذهب العديد من رجال الدين إلى التأييد التام لجميع مواقف وآراء منظمة مجاهدي خلق في السياسة والاقتصاد والفلسفة.
ثم حلت سنة 1971 التي ظهر فيها المجاهدون في العلن على الساحة الإيرانية كقوة ثورية مسلمة ذات شعبية وبريق اجتماعي واسع حيث بدأ حقًا عهد الأفول السياسي والعقائدي لخميني.
هنا أنقل حرفيًا عبارات عن الصفحة 163 من المجلد الثالث لكتاب بعنوان «مسايرة الشمس» الذي أصدره نظام الملالي نفسه ويتضمن السيرة الذاتية لخميني، فيكتب أحد أفراد حاشية خميني في هذا المجال يقول: «... في تلك الأيام كانت الأجواء لصالح مجاهدي خلق بحد يمكن القول إن أدنى انتقاد قد يوجه إليهم كان محكومًا بالفشل والرفض الشديد. أعرف كثيرًا من الأشخاص كانوا يعتقدون أن دور الإمام في النضال وفي الحركة قد انتهى وأن الإمام وبعدم تأييده لمجاهدي خلق قد وقّع في الحقيقة شهادة هزيمته. هؤلاء الأشخاص كانوا مقتنعين بأن الإمام قد أزيح عن ساحة النضال وقد حان الوقت الآن لأن تقود منظمة مجاهدي الشعب الإيراني حركة النضال والثورة في إيران. في الحقيقة كانت هذه المجموعة قد حققت شعبية لدى الجمهور الإيراني وكان الإمام يعرف ذلك. كل يوم كانت رسالة تصل إلينا من إيران بأن: "مكانتكم قد انحسرت ودوركم بدأ ينسى في أذهان المواطنين. إن المجاهدين بدأوا يحلون محلكم"...». 

نص رسالة منتظري إلى خميني بتاريخ 15 صفر عام 1392 الهجري (عام 1972 الميلادي):
«حضرة آية الله العظمى... مد ظله العالي
بعد تقديم السلام والتحية، أحيطكم علمًا وكما تعرفون بأن عددًا كبيرًا من الشبان المسلمين والمتدينين يعيشون قيد السجن وأصبح عدد منهم عرضة لخطر الإعدام. إن التزامهم القوي بالشعائر الإسلامية ومعلوماتهم الواسعة والعميقة عن الأحكام والمعتقدات الدينية معروفة ولفتت أنظار جميع السادة ورجال الدين. وقام بعض من مراجع التقليد ومجموعة من علماء الدين في البلاد بتحركات لتخليصهم من السجن وقد كتبوا رسائل وبيانات في هذا المجال. فلذلك ينبغي ويستحق الأمر أن تقوم فخامتكم بإصدار شيء ما تأييدًا ودعمًا لهم وحقنًا لدمائهم. هذا الأمر ضروري في الظروف الراهنة لأن معارضينا يحاولون تصويرهم منحرفين. علمًا بأن طبيعة هذا التأييد والدعم تعتمد على رأي فخامتكم. وفي الختام ألتمس الدعاء بالخير من حضرتكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته – حسين علي منتظري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق